حينَ نفتقِدُ الدّموع
الجوّ في عيادةِ العينيّة ضبابيٌّ يُشعِرُ بالسأم، الصّمتُ أطبقَ جفنيهِ على كلّ شخصٍ في المكان، ليسجننا في حدوده الرّتيبة. يتخلّله صوتُ سعال طفلةٍ في السّابعة، قُدّر عليها أن تجلسَ قربَ متبجحٍ ينفثُ لفافةَ تبغ، ويختلطُ الدخان بالضّبابِ المخيّم على الأرواح المغلقة، يشعرني بأنني أغرقُ وتتقطعُ أنفاسي، مع كلّ دقيقةِ انتظارٍ إضافيّة .
أحدّقُ في الورقة التي تحملُ رقمي، وأبتسم ..
أليسَ ذلكَ شعورٌ غريبٌ كونكَ قد أصبحتَ رقماً ؟!
مجرّدُ رقمٍ بلا معنى .. يتباهى بالنظرِ إليكَ وهو متصدّرٌ بطاقة خضراء، ليخبركَ بأن الفحوصات لن تجرى لكِ إلا عن طريقهِ، فتزداد كآبةً وقد استعبدكَ مجردُ رقم .. هو أنت ..
نظرةٌ سريعةٌ على الأرقامِ المبهمةِ الأخرى، شركاء الهمِّ والألم ..
وجدت بأنهم قد تصالحوا مع بطاقاتهم، وقنعوا بأهمية أرقامهم، وانصرفوا للتفكيرِ في أمورٍ أخرى ..
الشّاب الأسمرُ الطويلُ قربي راحَ يقلّب في الجريدة، والفتاةُ الحسناءُ على المقعدِ المقابلِ راحت تتأملُ مرآتها ..
ظننتُ بأنها ستكتشفُ على الفورِ مدى قبحِها، ولكنّها راحت تبتسمُ بإعجابٍ، وتتأكدُ من أنّ أحمرَ الشّفاهِ يلمعُ على ثغرها، فأيقنتُ كم أن العيون تخدع ..
بعضها زجاجي، لا يمتد عصبهُ إلى الشعورِ إلا بأعصابٍ ميتةٍ!
وعيونٌ لا تبصر رغم أنها سليمة البصر، قد أجرت عليها الطبيبة فحصاً دقيقاً، واستخدمت كل وسيلة حديثة لتكتشف سبب الخلل، ولا خلل ! سوى أنها لا تجيد فن الإبصار، لا تجيد الإبحار في تيار الدفء والفرح والحزن والألم .. ولا ترى من هذا الكون إلا جماداته ، ولا تبصر بذكاء . وهناكَ عيون تقرأُ الكلمات الشاردة، وتحلل الأفكارَ المحلّقةَ، وتخبركَ بصمتٍ أنها قد فهمت لغة الصمت، ولكن أينها ؟!
قربَ الباب الذي يؤدّي إلى الطبيبةِ، تقابلت نظراتي مع نظراتها .. فابتسمت ..
شعرتُ للحظةٍ بأنها كانت تتجسسُ على أفكاري، وتقرأ ملاحظاتي التي ثرثرتُ بها مع نفسي في قعر الصّمت الرتيب .
ابتسامتها أشعرتي بالخجلِ، وكثيرٍ من الحرج، وكأنها رسالة خفيّة لي كي أتوقفَ عن سردِ الملاحظاتِ وقد كانت هي الأخيرة التي لم ألتفت إليها .
قطعت رسائلنا الصّامتةَ خطواتُ الممرضةِ متجهة إليها ..
وضعت في عينيها بضع قطرات من الدواءِ، وهمست لها بلطفٍ :
- لن تستطيعي الرّؤيةً لمدّة نصفِ ساعة ..
لم تُجب، وأيضاً .. لم تُفارقها الابتسامة !
أغمضتْ عينيها واستسلمت للصّمتِ والظلامٍ في آنٍ معاً .
مضى الوقتُ لينتشلَ من أمامي بعضَ الوجوه والأرقام الكئيبةِ، لتحلّ مكانها وجوهٌ وأرقامٌ أخرى، لا تقلّ عنها كآبةً أو بؤساً.
كلّ وجهٍ كانَ مادّة جيدةً لقصّةٍ وهميّة أسردها في داخلي، وأثرثرُ بها على هوايَ لأنتزع وحشةَ الرّوح .
وبين الدقيقةِ والأخرى كنتُ أختلسُ نظرةً إلى رقمي، فأجدهُ مازالَ يحدّقُ بي بشماتةٍ، يمدُّ لسانهُ في وجهي لإغاظتي، فأتعا ملُ مع الأمر بحكمة، فأتجاهلهُ، وألحّ على عقاربِ السّاعةِ بأن تسرع، فقد طالَ الانتظار ..
وأسترقُ نظرةً إلى وجهها، فتهدأ روحي وهي تلمحُ روعة الابتسامِ مخلطاً بدموعٍ سالت على الخدّين بفعلِ قطرة ..
وحان دوري لإجراءِ اختبارِ النّظر ..
بعدوانيّة ألقيتُ البطاقةَ والرّقم على طاولتها ومشيتُ وكأنني تخلصتُ من قيدٍ يلفّ معصمي ومضيتُ إلى الطبيبة..
- أرني عينيكِ من فضلكِ، ممَ تشكين ؟! ..
همستُ بصوتٍ خفيضٍ ..
- من فقرٍ في الدّموع .. هل لكِ أن تصفي لي علاجاً للبكاء ؟ فقد استنفذتُ مدخراتي منهُ وأنا أقرأ قصص ما وراءِ العيون ..
رفعت الجهازَ من أمامي، وهمست في أذني :
- أخطأتِ العنوان إذاً ..
وأشارت إلى السيّدة السّعيدة في الخارج، وقالت :
- ستخبركِ تلكَ المرأة بالعلاج ..
أسرعتُ إليها، وجلستُ قريبةً منها .. آثارُ الدّواء بدأت تتلاشى من عينيها، فنظرت إليَّ مجدداً وابتسمت قائلةً :
- ممَّ تشكين يا ابنتي ؟
- أفتقدُ دموعي ..
قبضت على يدي، وقرّبتها إلى قلبي وقالت :
- حيثُ يوجدُ القلبُ ستجدين الدموع، فلا تضيّعي الوقت بالبحث عن عيونِ الآخرين قبلَ أن تكتشفي قلبك..
وأعطتني بطاقتها وأضافت ..
- عندها لن تكوني مجرّد رقم !
سقطت دمعةٌ دافئةٌ، فمسحتُها رُغمَ الحنين إليها ... وابتسمتُ ..
[